غربة (الجزء الرابع)



الغربة و الشعر الأبيض
لأول مرة خلال سنوات الغربة التي تعدت الست سنوات الآن يتسنى لي الاستقرار بمصر لأكثر من شهر. ظهرت لي خلال تلك الفترة عدة ملاحظات استرعت انتباهي ،ولكن الملاحظة الأكبر كانت الشعر الأبيض الذى كسى كل من عرفتهم خلال حياتي، خصوصا من عرفتهم منذ صغري، يبدو أن تلك السنوات الست كانت طويلة قاسية على الكثير ممن عرفت هنا في مصر.
أعرف انها سنة الحياة أن يشيخ الناس على مر السنين، لكن أن ترى شخص عرفته طول عمرك لأول مرة منذ فترة و قد اكتست رأسه بالمشيب كان بمثابة الصدمة لي، مدرسين الطفولة وجيران العمر والأقارب، يبدو أني قد فاتني الكثير هنا من حياة من أعرف، تلك الصدمة ضاعفت احساسي بالاغتراب عمن حولي الذي اختبرته في كل إجازة.
ظهرت الشيخوخة جلية قاسية على ملامح من عرفتهم شبابا أقوياء مقبلين على الحياة، ولا أعتقد أن السنين فقط هي من رسمت تلك الملامح. أظن أن السعي وراء لقمة العيش في هذا البلد القاسي الظالم أهله كان له اليد الأعلى في تلك الشيخوخة.
حتى أصدقائي و هم مازالوا في بداية الثلاثينات من عمرهم يبدو عليهم الإنهاك والانشغال الدائم بمجهول ما ينتظرونه ويهابونه في مستقبلهم القريب والبعيد، لقد باتوا أكثر قلقا و أقل انتعاشا مما عهدتهم طوال حياتي.
تظهر ملامح الزمن على المغتربين بالطبع مع مرور الأيام، لكن أن تكون حاضرا أثناء تلك التغيرات يختلف كليا و جزئيا عن أن تصطدم بأثرها فجأة دون أن تدرى متى و كيف حدث هذا، شعرت فجأة بأنه قد فاتني الكثير الكثير بعيدا في تلك الصحراء عديمة المعنى التي ألفتها وألفت مرور أيامها برتابة قاتلة.
قد يكون يقيني شبه التام باقتراب عودتي من الغربة هو ما دفعني للتركيز في ملامح من حولي على عكس الإجازات السابقة التي قضيتها باحساس الفترة المؤقتة التي سرعان ما ستمضي و أعود مرة أخرى لغربتي المحبوبة، لكن هذه المرة مختلفة، قد صرت رب أسرة أحمل على عاتقي مستقبلها و أمانها، مستقبل لازلت لا أعلم شخصيا ملامحه حتى الآن.
صدمني عدد من وافتهم المدنية من أصدقاء أبي و معارفه وأقاربي ممن عرفتهم طفلا مملوءين صحة و انطلاقا ،لهذه الدرجة قد مر الزمن وأنا في غفلة عنه.
يبدو أنه قد فاتني الكثير وأنا في حالة انفصال كامل عن مصر بما فيها ومن فيها.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

يا منفي

الشيخ عبود بطل الحرب و السلام

اسكندرية،،، ليه؟!